محاكمة المطران منصور لبكي بجرم اغتصاب أطفالٍ بقيت طيّ الكتمان. كافة تفاصيلها منذ نشوئها وحتى بلوغها الحكم الأخير بالإدانة، بقيت كذلك. لماذا؟ لحماية شخص المطران اللبناني، أو لحماية المؤسسة الدينية؟ بلّغت الكنيسة الأم ابنتها اللبنانية بالإدانة، فكتمت بدورها الخبر. كان لبكي ليقضي بصمت سنوات حكمه حتى مماته متعبّداً في الدير، ولربما قصدته أمهات كثيرات بأطفالهن، ولربما فصل بينهم السجّان الرمزي، ولربما جهل بالجريمة الأصلية فجمع بينهم بكل "طيبة" و"محبة". كل شيء كان على ما يرام، قبل أن تكشف المجلة المسيحية الفرنسية الخبر. ولماذا كشفته؟ هل صنّفته خبراً عاماً وظيفتها نشره للتوعية والتنبيه؟ هل رأت فيه قضية أخرى من قضايا اغتصاب القاصرين والتحرّش الجنسي التي تبادر المؤسسة الكنسية إلى البتّ بها بدلاً من الصمت عنها؟ هل هي تحتفي بالخطوة الإصلاحية في كنيسة لطالما أدانها الرأي العام الغربي لصمتها عن التجاوزات الجنسية التي يقدم عليها رهبانٌ بحق الأطفال؟
التهمة ليست جديدة على رجال هذه المؤسسة، ولقد فازت فضائحها على مرّ السنين الأخيرة بأغلفة أبرز المجلات والصحف الأوروبية. ليست مفاجأة، ولا منصور لبكي استثناء. ولا كانت الإدانة لتعتبر فضيحةً وإنما إصلاحاً لفساد ومكافحة لجريمة، لولا تعنّت المؤسسة لعقودٍ طويلة ورفضها الخضوع للمساءلة. ولا يعني ذلك طبعاً أن كل راهبٍ متهم، ولكن يعني ذلك أن المؤسسة "رعت" خللاً مؤسساتياً، وهي مضطرة اليوم للتعامل معه كذلك، إن عبر إدانة مرتكب الجريمة بحيث لا ينمو المجرمون محميين في كنفها، أو عبر مراجعة الظروف التي جعلت من هذه الجريمة تتكرّر حتى باتت خانةً قائمة تُضاف إليها أسماء مع مرور الأيام.
تبرئة المُدان
بادر كثيرون في لبنان إلى رفض الخبر عند وقوعه، وإدانة ناقله بأبشع الألفاظ. وما ذلك إلا حمّال معنى. فالحال السيئة، التمسّك بالفقر، بالحداد، بالجرح اليابس، هي تعويذةٌ ضد الأسوأ. أي اهتزازٍ في هذه العمارة أو خروجٍ عنها هو تهوّر واعٍ وإرادي نحو وهم سعادةٍ، سيُلقي بك حكماً من عليّ ومن جديد إلى هذه الحال، فترتطم بما كدت تألفه، ولربما تهوي إلى سحيقٍ أبعد. كفانا الله الشرّ، وأبقانا حيث اعتدنا.
أضف إلى ذلك إيديولوجيا الذنب. الذنب، الفداء، والعقاب. محيطٌ جمدت داخله أفكاره كجذع السنديانة. وها هي تنفجر فجأة في حالةٍ دفاعية عن جريمةٍ ظنّ المرء أنها لن تجد مدافعاً عنها. والجريمة جنسية. تستحضر الملذات، ملذات رجلٍ ندر نفسه للعفّة. تستحضر الجسد إلى أذهانٍ اعتادت على التبرؤ من رجسه لصالح الروح. الجريمة الجنسية مربكة دينياً خاصة إذا مسّت الذكر الذي تحتفي بسلطته الكنيسة، والسلطة على الأجسام لم تُمنح في بلادنا بعد لأصحاب هذه الأجسام. ثم، لا أحد من أبناء وبنات الرعيّة يريد أن يفكّر بأن ابنه تعرّض للتحرّش الجنسي في كنيسةٍ يوماً ما، أو لربما يتعرّض لذلك غداً، ولذلك "لا تحرّش جنسي في الكنيسة". المكان الآمن لن يشوبه خطر داخلي. فالأخطار تستهدفه من الخارج، "يكرهوننا". لا يريد مؤمنٌ أن يفكّر بأن العصب الرئيسي في حياته الشخصية والسياسية والاجتماعية قابلٌ للإدانة، فيبادر إلى رفع التهمة وإدانة من يدينه. ولأن مصدر الإدانة يأتي من جسمٍ أرفع مرتبةً في الترتيب الكنسي، فلا بد أن الخطأ الذي وقع هناك هو خطأ إداريّ. الخطأ بشري، والبشر خطّاءون، أما هياكل الإيمان فلا. لم يخضعوا لإغراء الفاني، اتشحوا بالسواد زيّاً رسمياً، فلم ينالوا عقاب الفقر أو الحداد، وإنما وجدوا لاستيعاب الفاني الذي خضع للإغراء وعاد متألماً. سيمنحونه مكافأة اعترافه، بضع صلواتٍ والكثير من أدبيات الصبر على الحياة حتى الوفاة. هذا الرجل الذي اعترفتُ له، هذا الذي يشكّل صلة وصلي بالخلاص، يمحي خطاياي، يمنحني صك البراءة، في الأرض كما في السماء، كيف يُدان بجريمة؟ خاصةً تلك التي تستحضر لذّات الجسد، لذّات الـ... أستغفر الله، لا لا لا، هو بريء.
تبرئة المُدان بهذه الجريمة هو سبيلٌ إلى الأمان. وهي تبرئةٌ لا تتطلب أدلة إذ أنها تأتي من عالمٍ مبني أساساً على انعدام الأدلة. عالمٌ ما ورائي لا تمسك بيدك منه إلا زيتاً يظهر فجأة في الأكف ليليّن مفاصل الإيمان المجتمعي. الإيمان ليس فعلاً حسّياً ينجزه المرء كما ينجز الفلّاح قطاف زيتونه أو النجّار باب البيت، وإن بقيت نتائجه على الأرض شديدة الحسيّة.
التعاطف المستحيل
الدين كالجيش، مؤسسة لا تحتمل المعارضة. فلا تتسع للتطوير، التشاور، التفاوض على المساحات. الدين جامد، وقادر على القتل، تماماً كما هو قادر على التعليم والطبابة ومنح المغفرة. ولذلك هو جذّاب لبعض أتباعه، وليس كذلك لمن ليسوا كذلك. إذ يصعب التعاطف مع "الأتباع" الصلبين لأكثر من سبب: أولاً، عداؤهم للتغيير لا يقف عند حدود الذات، وإنما ينسحب عداءً للتغيير على مساحة المؤسسة المجتمعية التي تشارك المؤسسة الدينية في إدارتها. غاضبون، صورتهم عصيّة على الهضم إن لم يكن المرء منهم. منصور لبكي نفّذ جريمة بحق المجتمع، لكن أتباع الكنيسة المحلية يعجزون عن التعامل مع تبعات ذلك، فيرفضون الإدانة ويستبيحون حقوق المجتمع، يريدون أن يخرسونه. ثانياً، هم أقوياء كفاية لأن يقدروا على إخراسه. ولقد شاركت المؤسسة الدينية في إخراس مواضيع حقوقية كثيرة من إدانة العنف الأسري إلى تجريم اغتصاب الأطفال، مروراً بكامل بنود المشروع المدني. يمتلك الدين السلطة، ليس فقط كأفراد مؤمنين مرتفعي الصوت، وإنما ككتلة، كنظامٍ يقيت جنوده فتات يومهم، ويقتات منهم حمايةً، يمتلك السلطة بهم وعليهم. أضف إلى ذلك ما يمكن أن تجنيه الكنيسة هنا من الاستثمار حشدياً وانفعالياً ومادياً في خانة الأقليات. ثالثاً، يصعب إبداء التعاطف أو التفهّم لأتباع الكنيسة المشرئبين ضد إصلاحها، كونهم يمتلكون سلطة المقدّس وتعنّته وكبريائه. الألوهة التي تجعل المعارض كافر، والصحافي مؤامرة. وهي بذلك تشبه الديكتاتوريات العربية المقبلة على زوالها، تطحن الاختلاف ولا تتداول السلطة.
ويأتي الإقتصاد الريعي الذي يعيش عليه لبنان ليجعل الكنيسة نمط حياةٍ لا يسهل على الكثيرين تخطيه في صناعة الهوية، خاصة في ظل غياب الدولة، أيّ المعطى الوطني والرعاية الرسمية. وهو ليس غياباً اختيارياً، وإنما هو غيابٌ إجباري شاركت الكنيسة في فرضه على البلد، تماماً كما شاركت وتشارك المؤسسات الدينية كلها هنا في التعيين والمناصرة بين أطراف كل نزاع سياسي داخلي وخارجي. الكنيسة سلطة، والمؤسسات الدينية الأخرى كذلك، وهي تؤمّن رافعةً اجتماعية لفئات هي الأكثرية مُنِعَت الدولة من أن ترعاها، فجعلتهم الطائفة جنودها المشرئبين عند الحاجة.
إن فصل الكنيسة عن الدولة في أوروبا أتى لرفع ظلم تراكم وراكم قتلاه وضحاياه. وقد أتاح لأوروبا التقدّم والريادة، من دون أن يلغي الدين من مجتمعاتٍ منها ما يُعتبر شديد التديّن والمحافظة. لكن الحرب مع الكنيسة في أوروبا لم تكن سهلة ولا سريعة، ولم تأت الصعوبة من امتلاك الكنيسة للسلطة فحسب وإنما من امتلاكها للناس أيضاً. وكانت حرباً طويلة لا بد أن أحد أسباب نجاحها خروج الغاضبين عن الكنيسة ليشكلوا أكثرية جديدة في معادلتها، فباتت تردّهم عنها بالقوّة بعدما فقدت سطوة الإيمان عليهم. ومع ذلك، كانوا خارجها ولم يخرجوا عن الدين إلا بالخيار الفردي. وليس في ذلك القول إشادة بعدالة الأديان أو فصلٌ ما بين الدين ورجاله، فالدين هو حياته في المجتمع، ولا جميلَ لدينٍ يُنظر إليه على أنه أجمل من ناسه.
العطب المؤسساتي
يريدون حماية كرامة منصور لبكي، ولربما طوّبوه قديساً لو سلطة التطويب كانت محلية، وذلك نكايةً بـ.. نكايةً بمن؟ على الأرجح، وللأسف، لن تكون النكاية إلا بالذات، وتلك هي عدّة العمل الماورائي. نكاية بالذات المؤمنة، التي ستستمر في إرسال الأطفال إلى المؤسسة، هكذا بلا رقابة. والجريمة لم تولد اليوم، ولن تنتهي بإدانة منصور لبكي. وما لبكي إلا خطوةً على طريق قد يكون صحيّاً لو استمرّت الكنيسة الأم بإدانة المجرمين، بحيث اضطر جمهورها المحليّ إلى التواضع أولاً، ثم القبول بالتحكيم الداخلي، وتقبّل إيجاد المغفرة لدى جسمٍ ليس منزّهاً.. تماماً كما تجد العلاج البدني لدى جسمٍ طبي تعرف أنه ليس منزّهاً عن الخطأ. فالمهم هو الطموح نحو تصحيح الخطأ، بدلاً من رعايته.
إذا مضت الكنيسة في سكّة إدانة التحرّش الجنسي داخلها، إذا خضعت أخيراً لضغط مجتمعي أوروبي جعلها تترنّح قبل أن تخضع، فلا مفرّ من أن يتسرّب ذلك إلى المؤمنين هنا. حينها، قد تجد سيدةً في ريفٍ لبناني ما، أو ريفٍ فرنسي ما، تستعيذ بربّها عندما تسمع بجريمة كهذه، وتكمل مسيرتها نحو خلاصها كما كتبت لها الأناجيل. القبول بأن المؤسسة الدينية يديرها بشر ليسوا آلهة صغاراً، هو الخطوة الأولى نحو الوعي، وتحمّل ولو جزء من مسؤولية الذات في الحال وفي الدنيا.
ولكن، من الآن وحتى حينه، لا مفر من الغضب. الغضب أمام أصوات تجاهر بدفاعها عن الجريمة، وعن المجرم. تسمّي له كرامة، تهين لأجلها كرامات الناس. يوضع في دير، وليس في سجن. تشرئب الأعناق وتخرج الشرايين عن رداء الجلد، فتستجلب لصاحبها الغضب أولاً، والشفقة تالياً. إذ تجب الشفقة على من يطالب بأن يكون ضحيةً مغتصبة. وستكون الشفقة في موقعها الصحيح يوم يتغيّر ميزان القوى، ويفيض الأذى عن قدرة الناس على هضمه.
أما الآن فالسلطة لا تزال في أيدي هؤلاء...